تاريخيا لم ينتهِ الرق إلا قريبا، وبالتالي فلسنا بعيدي عهد بأحد أبشع أنواع التمييز بين البشر. في أيام العبودية كان الملاّك يقنعون عبيدهم بأن الوضع الطبيعي للحياة هو وجود عبد وحر، وأن ليس لأحد قدرة على التخلص من هذا الوضع الذي تفرضه علينا طبيعة الحياة. من جهة أخرى كانت العبودية في البيئات المتدينة تقدم على أساس أنها إرادة الله، وليس لنا أمام إرادة الله من خيار. يسجل تاريخ الرق في أمريكا حكايات مهمة جدا تفسّر كيف كان التمييز يقدم للناس وتحت أي منطق. من المعلوم أن عددا كبيرا من السود عارضوا عملية تحريرهم باعتبار أن هذا التحرير يخالف إرادة الله. كان هؤلاء متسقين مع أنفسهم جدا فقد عاشوا طوال حياتهم على هذه الفكرة ورضوا بواقعهم بسببها، وبالتالي فإن تغييرها ليس تغييرا سطحيا بقدر ما هو تغيير في عمق الوعي. اليوم نعلم أن هذا الوعي وعي زائف، وأن العبودية ليست هي الوضع الطبيعي بقدر ما هي عملية خاضعة لميزان القوى ومنطق الأخلاق عند البشر. الخروج من الوعي الزائف لم يتم بسهولة بقدر ما احتاج الكثير من العمل من أجل تحقيقه، يمكن تلخيص هذا العمل في التأسيس لمنطق المساواة.
على المستوى المحلي أذكر عملية التمييز بين طبقات المجتمع: قبيلي، خضيري، صانع، عبد... وغيرها كانت تقدم على أنها أمر خارج عن إرادتنا ولا يمكن مقاومته. لا أذكر أننا تعلمنا أن هذا التمييز يقوم على منطق حق أو منطق بيولوجي أو غيرها من التفسيرات التي قد تساق لتبرير التمييز. ما كان يقدم لنا هو أن هذا التمييز أمر ضارب في التاريخ، ولا يمكن لنا الخروج عليه، وهناك أمثلة كثيرة تساق على أن من حاولوا الخروج على هذا الوضع تعرضوا للنفي والإقصاء، وتم بالقوة فرض منطق التمييز عليهم. نلاحظ هنا الإحالة أيضا إلى قدرة خارقة لا حيلة للفرد في اختراقها أو الخروج عليها.
هنا يمكن أن نرى أن منطق المساواة يواجه بنى قوية وأساسية في المجتمع. خصوصا المجتمعات التقليدية التي نجد منطق التمييز كامنا خلف التركيبة العميقة للتفكير والتخطيط للحياة والمجتمع. في التاريخ الأوروبي كانت فكرة المساواة تواجهها صعوبات كبيرة في اختراق البنى الاجتماعية بكل أشكالها. اجتماعيا كان المجتمع الأوروبي مكونا من طبقات أرستقراط ونبلاء وبرجواز وبروليتاريا، والحدود بين هذه الطبقات شديدة الوضوح والحركة من خلالها محدودة وفي غاية الصعوبة، كانت الطبقة التي ينتمي لها الفرد هي قَدَره الذي لا يستطيع الخروج عليه، فابن الأسرة البرجوازية لديه حدود معينة لا يمكنه الخروج عليها إلا في حالات نادرة وشديدة التعقيد وتدخل في إطار المصادفات أكثر من كونها حركة طبيعية. هذا شكل من أشكال التمييز القائم على تصنيف اجتماعي واقتصادي، لكن بالتأكيد هناك تمييز يقوم على أسباب عرقية وعلى أسباب تتعلق بالجنس.
منطق المساواة يعني أن الأصل بين الناس هو المساواة. وأن الفوارق التي تحدث بينهم يجب أن تكون فوارق ناتجة عن العمل الفردي وليست نتيجة ظروف سابقة على الإنسان. بمعنى أن لا يحكم على الفرد بأسباب لا علاقة له بها كالعرق أو الجنس أو بناء على خياره الحر الذي هو مساحته الخاصة كالمعتقد أو الفكر أو نمط الحياة الذي اختاره لنفسه. وبالتالي فإن كل الأحكام التي تقوم على تمييز بين الناس بناء على فوارق سابقة على اختيارهم أو تتعلق بخياراتهم الخاصة هي أحكام ظالمة وتهدد بنية المجتمع ويجب تجريمها.
من المهم التأكيد هنا على قضية مهمة وهي أن مفهوم المساواة الذي نتحدث عنه هنا هو مفهوم حديث تاريخيا وأن الأمثلة التي نرددها غالبا من التاريخ القديم لا تنطبق على هذا التعريف بقدر ما هي نقاط داخل نظام التمييز وفي سياقه ولكنه تخرج خروجا في الدرجة لا خروجا في النوع. أقول هذا باعتبار أن مفهوم المساواة يتطلب تغييرا جذريا في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية وميزان القوى ونظام القضاء ومراقبة ووعيا لم يتحققا إلا في العصر الحديث. لا أحد كان يتصور في العصور القديمة أن يتولى الرئاسة في المجتمع شخص يختلف عن الغالبية في العرق أو الجنس أو المعتقد. هل كانت المجتمعات في الماضي تتحمل مثل هذا الوضع؟ وهل تتحمل المجتمعات التقليدية اليوم هذا الوضع أيضا؟ هذه أسئلة من المهم التفكير فيها في سياق التفكير في منطق المساواة باعتبار أن كل المجتمعات تعتقد أنها تحقق العدل والمساواة وتحاول أن تبرر كل التمييز في داخلها كما تحدثنا هنا في بداية المقال.
منطق المساواة هو المنطق المنبثق من فكرة الإنسانية، أي الفكرة التي تعود إلى أن الانتماء لجماعة الإنسانية هو الشرط الوحيد الذي يكفل للفرد الحماية من أي تمييز يتعرض له نتيجة أمور ليست من اختياره كالعرق أو الجنس أو اللون أو نتيجة لخياره الحر باعتباره إنسانا له الحق في التفكير والتعبير والمشاركة العامة واختيار نمط الحياة الخاص. هذا المنطق لا بد أن يكون الأساس الذي تبنى عليه الأنظمة والقوانين العامة التي تضبط حياة المجتمع.
في منطق المساواة "الأنا الإنسانية الفردية" هي القيمة الجوهرية التي تكفل للإنسان حقوقا طبيعية لا تزول تحت أي ظرف كما أنها القيمة التي ينتج عنها تخطيط الأنظمة لتوفر فرصا متكافئة للأفراد للتعليم والصحة وتحقيق الخيارات الشخصية والأحلام الفردية والمشاركة العامة. من الطبيعي أن يكون في المجتمع مسؤول ومواطن، معلم وطالب، أم وبنت، أب وابن، كبير وصغير، رجل أمن ومجرم.. وغيرها من الأوضاع التي تفرض علاقة غير متكافئة... هذا لا يتعارض مع منطق المساواة إذا تأكدنا من أن هذا العلاقات لا يترتب عليها تجاوز للطرف الأعلى لحقوق الطرف الآخر الطبيعية كإنسان حر ولا تعيق مشاركته الطبيعية في المجتمع.

وتقبلوا تحيات
محمد الشلاحي
منسق موقع قبيلة مطير
ديوانية مطير ( قصر الحومة الثقافي )
الرياض - المملكة العربية السعودية