"نبذة جبر بن سَيَّار" في الأنساب: نَظَرٌ في الأصول
نَشَرَ المحقِّقُ راشد بن عساكر هذه "النبذة" مستنِداً إلى ثلاثِ نُسَخٍ خَطِّيَّةٍ، هي: النُّسْخةُ الأولى ونسخةُ (م) ونسخةُ (ب) وقال: إنَّه يُرجِّحُ أنْ تكونَ نسخةُ (م) ونسخةُ (ب) منقولتَيْن [عن أصل خطي واحد، ويتبين ذلك في اتفاقهما عند مقابلة كلا النسختين تقريباً] (ص 77). وبتتبُّعي لهذه المسألةِ وَقَفْتُ على صحَّةِ تَقْديرِ المحقِّقِ، فعلى هذا تكونُ النُّسْختان (م) و(ب) في مقامِ نُسْخةٍ واحدةٍ.
فإذا نَظَرْتَ في هذه النُّسَخِ الثَّلاثِ جميعاً وَجَدْتَها تَشْترِكُ في أمورٍ، هي أنها:
1. مَجْهولةُ الأصْلِ.
2. ومَجْهولةُ النَّاسخِ.
3. ومَجْهولةُ تاريخِ النَّسْخِ.
وهذه قوادِحُ خطيرةٌ في الأصولِ، وقد تُودِي بكلِّ قيمةٍ عِلْميَّةٍ لهذا الأثَرِ. ومع أنَّ المحقِّقَ قد أشارَ إلى هذه الأمورِ في تَوْصيفِه للنُّسَخِ (ص 75 / 77) غيرَ أنَّه لَمْ يُحْسِن تَطْبيقَ مناهجِ التَّحْقيقِ العِلْمِيِّ في مثلِ هذه الحالِ.
فلا نَعْرفُ ما اتِّصالُ النُّسَخِ الثَّلاثِ بنسخةِ المؤلِّفِ الأصليَّةِ؟ هل هي مَنْسوخةٌ عن الأصلِ مباشرةً؟ أم هي مَنْسوخةٌ عن فَرْعٍ لأصلِ المؤلِّفِ؟ أم عن فَرْعٍ لهذا الفَرْعِ؟ وهل الأصلُ الذي نُقِلَتْ عنه النُّسْخةُ الأولى أصَحُّ من الأصلِ الذي نُقِلَتْ عنه نُسْختا (م) و(ب)؟ أم العَكْسُ؟
ويَظْهَرُ أثَرُ هذا الجَهْلِ بالأصولِ في هذه المسائلِ من "النبذة":
أ. نَسَبُ "الوهبة" الواردُ في النُّسْخةِ الأولى (ص 114/ 117) لا يُوجَدُ في نُسْختَيْ (م) و(ب). فهل هي زيادةٌ من ناسخِ النُّسْخةِ الأولى؟ أم هي سَقْطٌ من أصلِ نُسْختَيْ (م) و(ب)؟
ب. وشَرْوَى ذلك: خَبَرُ الحُطَيْئةِ الواردُ في النُّسْخةِ الأولى ولَمْ يَرِدْ في النُّسْختَيْنِ (م) و(ب)، فهل هو زيادةٌ في الأولى أم سَقْطٌ في الأُخْرَيَيْن؟
ج. وعَكْسُ ذلك: نَسَبُ آلِ أبو بكرٍ (ص 125) غيرُ موجودٍ في النُّسْخةِ الأولى وموجودٌ في نُسْختَيْ (م) و(ب)، فهل هو سَقْطٌ أم زيادةٌ؟ وغيرُها أمثلةٌ أخرى تَرَكْتُها.
وليس من التَّحْقيقِ العِلْمِيِّ اختيارُ المحقِّقِ للنُّسْخةِ الأولى وجَعْلُها أصلاً لهذه "النبذة"، وقد ذَكَرَ المحقِّقُ سببَ هذا الاختيارِ فقال: [اعتمدت على النسخة الأولى، وجعلتها أصلاً لقدمها ولقلة النقص فيها والتحريف] (ص 81)، وهنا جُمْلةٌ من الأخطاءِ:
الأول: كيف حَكَمَ المحقِّقُ على هذه النُّسْخةِ الأولى بأنَّها "أقدم" من نُسْختَيْ (م) و(ب)؟ إذْ جميعُ النُّسَخِ لا تاريخَ لأصلِها ولا تاريخَ لنَسْخِها! فهذه مجازفةٌ خطيرةٌ من المحقِّقِ.
وقد حاوَلَ المحقِّقُ أنْ يَتَجاوَزَ هذا الجَهْلَ بتاريخِ النُّسْخةِ الأولى فقال عنها: [يرجع تاريخ نسخها إلى القرن الثاني عشر] (ص 75)، ثم قال عن نُسْخةِ (م): [لم يذكر اسم ناسخها أو تاريخها إلا أنها مكتوبة في أوائل القرن الرابع عشر] (ص 76)، وقال عن نُسْخةِ (ب): [لم يذكر اسم ناسخها أو تاريخ النسخ إلا أنها مكتوبة في نهاية القرن الثالث عشر أو أوائل القرن الرابع عشر] (ص 77). فإذا كانتِ النُّسَخُ جميعُهنَّ بلا تاريخٍ فكيف وَزَّعَهنَّ المحقِّقُ هكذا على العصورِ؟ أعتقِدُ أنَّه بنى ذلك على خطوطِ النُّسَخِ: فالنُّسْختانِ (م) و(ب) خَطُّهما واضحٌ ـ كما قال المحقِّقُ ـ أمَّا النُّسْخةُ الأولى فهي مَكْتوبةٌ بخَطٍّ نَعَتَهُ المحقِّقُ بالخَطِّ النَّجْدِيِّ وهو خِلاطٌ بين خَطِّ النَّسْخِ وخَطِّ الرُّقْعةِ (ص 75). ولا يَصِحُّ هذا المَذْهَبُ الذي سارَ فيه المحقِّقُ؛ لأنَّ نُسْختَيْ (م) و(ب) خَطُّهما ـ على وضوحِه ـ خِلاطٌ بين خَطَّي النَّسْخِ والرُّقْعةِ، فهُما مُرَشَّحتان ـ لذلك ـ لأنْ يتقدَّما إلى القَرْنِ الثَّاني عشر ـ كما قَدَّرَ المحقِّقُ للنِّسْخةِ الأولى ـ فتتساوى النُّسَخُ في القِدَمِ. وجاءَ في تَقْدِيم عبدِ الله المنيف لمخطوطةِ (عنوان المجد): [أما الخط فهو خط نجدي، فيه خلط بين خط النسخ والرقعة، كعادة أهل نجد في عدم التقيد بقاعدة واحدة في الكتابة، وهي فيما يبدو ظاهرة تميزت بها خطوط القرنين الثاني عشر والثالث عشر] (عنوان المجد في تاريخ نجد، نشرته مخطوطاً مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1423: المقدمة خ).
إذاً... لا صِحَّةَ للحُكْمِ بقِدَمِ إحدى النُّسَخِ الثَّلاثِ على أُختَيْها.
الثاني: ولَوْ سُلِّمَ للمحقِّقِ بأنَّ النُّسْخةَ الأولى أقدَمُ من نُسْختَيْ (م) و(ب) فإنَّ هذا القِدَمَ لا يَلْزَمُ منه اتِّخاذُ النُّسْخةِ الأولى أصلاً للنَّشْرِ، يقولُ برجستراسر: [إنَّ قِدَمَ التَّاريخِ للنُّسْخةِ ليس وَحْدَهُ مبرراً لتفضيلِها، ولهذا نحتاجُ إلى حُجَجٍ أقومَ وأثبتَ مِن تاريخِ النُّسْخةِ] (أصول نقد النصوص ونشر الكتب: 16). فالنُّسْخةُ التَّامةُ الحديثةُ خيرٌ من النُّسْخةِ النَّاقصةِ القديمةِ، وغيرُها كثيرٌ من المرجِّحاتِ التي انتهى إليها المحقِّقون في المفاضلةِ بين النُّسَخِ لا تُعْطِي قِدَمَ النُّسْخةِ أفضلِيَّةً مُطْلقةً على غيرِه من الأمورِ.
الثالث: وكيف حَكَمَ المحقِّقُ للنُّسْخةِ الأولى بقِلَّةِ النَّقْصِ؟ ألا يَلْزَمُ أنْ نَعْرِفَ أولاً النَّصَّ الأصلَ للمؤلِّفِ حتى نَحْكُمَ بنَقْصِ نُسْخةٍ أو بزيادةِ أخرى؟ وبما أنَّ أصولَ النُّسَخِ الثَّلاثِ مَجْهولةٌ فكُلُّ حُكْمٍ بزيادةٍ أو نَقْصٍ هو تجوُّزٌ ومجازفةٌ.
فمثلاً: قولُ المحقِّقِ عند ورودِ نَسَبِ "الوهبة": [وقد سقط قول نص المؤلف المهم هذا من نسخة (م) و(ب) من قوله: ووهبة أشيقر يجمعهم... إلى عوف هشام] (ص 117). فلماذا لَمْ يَحْكُمِ المحقِّقُ هنا بأنَّ هذا القولَ هو زيادةٌ أقْحَمَها ناسخُ النُّسْخةِ الأولى على النَّصِّ الأصلِ بدليلِ عَدَمِ وجودِها في نُسْختَيْ (م) و(ب)؟ أليس تَرْجيحُ أحَدِ الأمرين هنا تَرْجيحاً بلا مُرَجِّحٍ وقولاً بلا دليلٍ ساطعٍ؟
فيَظْهَرُ من هذا العَرْضِ أنَّ المحقِّقَ قد نَشَرَ "النبذة" مَلَفَّقةً من نُسَخٍ متعدِّدةٍ، والتِّلْفيقُ بين النُّسَخِ نَقْصٌ، والكتابُ الملفَّقُ تَنْحَطُّ الثِّقةُ بما جاء فيه درجاتٍ كثيرةً عن الكتابِ المنشورِ على أصلٍ صحيحٍ. وكان حَقُّ هذه "النبذة" ـ وحالُها ما قد بَلَغَك ـ أنْ تُنْشَرَ نُسَخَها الثلاثَ مُنْفصلةً، كلُّ نُسْخةٍ بحِيالِها، فهذا أدنَى إلى تحرِّي الصَّوابِ في نَفْي شَيْءٍ من الأصلِ أو إقحامِ شَيْءٍ ما هو منه، ونَشْرُها بهذه الطَّريقةِ هو ألْصَقُ بمناهجِ ثِقاتِ المحقِّقين، وصِغَرُ هذه "النبذة" مُعِينٌ للمحقِّقِ على نَشْرِ كلِّ نُسْخةٍ منفصلةً عن الباقِيَتَيْنِ.
والله أعلم.
ـــــــــــــــ
* الموضوع منقول باختصار من رسالةٍ للكاتبِ لَمَّا تُنشر بعدُ بعنوان: [ "نبذة جبر بن سَيَّار": نَظَر في الأصولِ وصَنْعةِ التَّحقيق ].